معنى التسامح والمغفرة، وقيمة وفوائد أن تكون متسامحاً

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: السبت، 16 نوفمبر 2024
معنى التسامح والمغفرة، وقيمة وفوائد أن تكون متسامحاً

التسامح من القيم التي تدعو لها مختلف الثقافات والديانات والمنظومات الأخلاقية والاجتماعية باعتباره من القيم السامية التي يجب أن يتمتع بها الإنسان، والتي تساعده على أن يحيى حياةً أكثر استقراراً وهدوءاً نظرياً بما أن التسامح سينعكس على حياته بشكل مباشر، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن التعنت والاستمرار بالمعارك اللانهائية والحفاظ على الحقد والضغينة هي بدائل المسامحة والمغفرة.

تعريف التسامح والغفران

الغفران أو التسامح أمر يحتاج إلى الكثير من التفكير قبل أن نقول أنَّنا وضعنا يدنا على معنى محدد له كمعظم المفاهيم غير المادية التي ترتبط بمشاعر الإنسان وثقافته ومبادئه...إلخ والتي لا يمكن قياس إمكانيتها أو آثارها ببساطة، فالبعض يرى أنَّ الغفران يكمن في التنازل عن المشاعر السلبية والرغبة بالانتقام بعد التعرض للأذى.

فيما يعتقد آخرون أن التسامح هو اللجوء إلى أقنية رسمية (قانونية) لأخذ الحقوق والتخلي عن الطرق الأخرى فيما يتعلق بالحقوق القانونية، سنحاول في سياق هذه المادة أن نشرح قدر الممكن الجوانب المختلفة لهذا المفهوم، لكن قبل ذلك سنطلب منكم أن تتخلوا لفترة وجيزة عن أي نظرة مسبقة عن التسامح والغفران، وأن تُسقطوا من أذهانكم نمطية هذه الكلمات بشكل مؤقت حتَّى نهاية هذه المادة.

ليس من الغريب القول أن أغلبنا يرغب بالانتقام، ويميل للعقاب

إذا استعاد كلٌّ منَّا ذكرياته مع الرغبة بالانتقام سيجد أنَّه غالباً ما يميل إلى الانتقام غريزياً عندما يتعرض للأذى مهما كان نوع هذا الأذى، كما تعتبر مشاعر الشماتة والتشفي جزءاً من هذا الانتقام، نحن هنا نتحدث عن الرغبة والمشاعر بغض النظر عن التصرفات الفعلية، والتي قد تكون غائبة أحياناً، كما يمكن أن تكون مجنونة ومبالغاً بها أحياناً.

لذلك تُعتبر القدرة على التسامح والغفران أمراً صعباً بعض الشيء؛ لأنَّ العلاقة بين التسامح والرغبة بالانتقام هي علاقة تقوم على طردٍ للمشاعر السيئة وإحلال المشاعر الجيدة مكانها، وهذه ليست عملية بسيطة كما يحاول البعض أن يسوِّق لها، لكنها ليست حكراً على الأنبياء والقديسين كما يحاول أنَّ يسوِّق آخرون.

هل التسامح تغلب على الطبيعة البشرية أم تغليب لها؟!

في الحقيقة هذا سؤال أعمق مما نتخيل! فهو امتداد للتساؤل عن الفطرة البشرية في أصلها إن كانت خيرة أم شريرة، فإذا افترضنا أن الإنسان ذو طبيعة شريرة تميل إلى التدمير والانتقام، وتستند إلى القوة في الحصول على ما تريده سواء أكان من حقها (تعسف باستعمال الحق) أم كان تعدياً على حقوق الآخرين، في هذه الحالة سيكون التسامح هو دعوة للتغلب على هذه الطبيعة، ليس فقط من خلال الصفح والمغفرة والتغلب على الرغبة الجارفة بالانتقام، بل حتَّى بطريقة تحصيل الحقوق عن طريق الأقنية الأكثر سلمية والأكثر انضباطاً.

أمَّا إذا افترضنا أن الإنسان ذو طبيعة خيرة - كما تدَّعي بعض النظريات (منها نظرية جان جاك روسو في نشوء الدولة والحكومة) - وأنَّ ظروف الحياة هي التي أفسدت هذه الطبيعة الطيبة، سيكون التسامح في هذه الحالة تغليباً للطبيعة الطيبة الأصلية على الطبيعة الشريرة المكتسبة.

سواء كان التسامح تغليباً للفطرة الجيدة أم تغلباً على الفطرة السيئة فهو أمرٌ يحتاج إلى الوعي بدوافع ونتائج التسامح، فلا أحد يسامح أحداً؛ لأنَّ التسامح جيد ولأن الدين أو الأخلاق أو أي موروثات أخرى تحثنا على التسامح وحسب، بل إن التسامح سلوك غائي يتبعه الإنسان عندما يكتشف فائدته.

هل التسامح سذاجة؟

على الرغم أن أغلب الثقافات تنظر إلى التسامح والمغفرة كقيمةٍ سامية، وتستمد الكثير من القصص التراثية والوصايا الدينية التي تحثُّ على التسامح، لكنها في نفس الوقت (عملياً) غالباً ما تتعامل مع التسامح أنَّه من ضروب الضعف أو السذاجة، وذلك يعود لفهم خاطئ أصلاً لفكرة المغفرة باعتبارها تنازلاً عن الحق، وهي ليست كذلك، أو باعتبارها قلة حيلة عن استعادة الحقوق، وهي ليست كذلك أيضاً، فما هي إذاً؟!

يمكن القول أن التسامح والمغفرة يتعلقان بطريقة استعادة الحقوق المادية والمعنوية، والسعي أصلاً باتجاه هذه الحقوق لا باتجاه انتزاع حقوق أخرى من الجاني، والقصد من ذلك أنَّ التسامح يتعلق بطريقة التعامل مع الظلم والرد عليه، فلا يكون السكوت عن الظلم تسامحاً، ولذلك يُعتبر العفو عند المقدرة من شيم الصالحين، لأن العفو بلا مقدرة ليس عفواً وإنَّما خنوع، فالقصد أن القوة والقدرة على الانتقام وإقامة القصاص هي شرط من شروط التسامح والعفو، وبذلك تنتفي صفة الضعف عن المسامح والغافر ما دام قادراً على الانتقام.

الإشارات الجسدية والصحية للتسامح

نشرت مجلة (Greater Good) في موقعها الرسمي مقالاً طويلاً عن التسامح وآثاره على الصحة الجسدية والنفسية معتمدةً على مجموعة من الدراسات لباحثين متخصصين، وقبل أن نخوض في نتائج هذه الدراسات لا بد أن نتوقف مع القصة التي افتتحت بها المجلة هذه المقالة، قصة كريس كارير.

تعرض كريس (Chris Carrier) للخطف والاعتداء بالضرب المبرح بقصد القتل عندما كان في العاشرة من عمره، حيث قام المختطف بطعنه وإطلاق النار عليه، وتركه في منطقة نائية، لكن كريس تمكن من النجاة بأعجوبة بعد أن استيقظ مع ألم شديد وقد فقد الرؤيا في إحدى عينيه، وبعد فترة طويلة كان المشتبه به باختطاف كريس يحتضر، فقرر كريس أن يعفو عنه، بل أنَّه كان يواسيه في أيامه الأخيرة، رغبة منه أن ينعم كليهما بالسلام حسب تعبير المجلة.

الضغينة تضاعف من مؤشرات الإجهاد على عكس التعاطف والتسامح مع المسيء

في دراسة قامت بها الدكتورة شارلوت فانوين وتيفليت (Charlotte vanOyen Witvliet) المتخصصة بعلم النفس في جامعة (Hope College)، وأعادت مجلة (Greater Good) نشر نتائجها تبين أن الشعور بالضغينة يؤدي إلى ارتفاع في الاستثارة الجسدية، وذلك بعد أن قام الباحثون بقياس المنعكسات والعلامات الحيوية لمجموعة من المتطوعين طُلب منهم أن يتذكروا أشخاصاً أساؤوا معاملتهم في الماضي، كما ظهرت على الأفراد موضوع البحث آثار القلق والحزن والغضب وفقدان السيطرة على المشاعر.

من جهة أخرى تبيِّن الدراسة أن التفكير بمسامحة هؤلاء الأشخاص المسيئين أو التعاطف معهم أدى إلى انخفاض الإشارات التي تدل على الاستثارة الجسدية لحدودها الطبيعية.

تأثيرات أخرى للتسامح على الصحة

وفي مقالة أخرى نشرها موقع (Huffington Post) تم ذكر الآثار الصحية للتسامح، والتي يحصل عليها الأشخاص الذين يتمتعون بالقدرة على المغفرة، هذه الآثار باختصار هي:

  1. التسامح غير المشروط يعني أن نعيش فترة أطول، والمقصود بالتسامح غير المشروط ألَّا يكون مرتبطاً بالاعتذار أو الحصول على مقابل ما، حيث يخفف هذا التسامح من المشاكل الصحية التي تنتج عن الغضب والتوتر نتيجة التعرض للإساءة والرغبة في الانتقام.
  2. كل الأعراض التي قد تنتج عن المشاعر السلبية التي ترتبط بالتعرض للإساءة ستختفي مع التسامح والمغفرة، ومنها ما يتعلق بمشاكل القلب والأزمات النفسية وإضرابات النوم، التي ترتبط كلها ببعضها في نهاية المطاف.
  3. يمتلك التسامح تأثيراً مباشراً على مستويات ضغط الدم وصحة القلب، كما قد تكون له آثار تتعلق بالجهاز المناعي.
  4. إضافة إلى ذلك فالتسامح والمغفرة سيجعلان من العلاقات الإنسانية أكثر سلاماً واستقراراً، وسيمنحاننا شعوراً بالطمأنينة والسكينة.

هل يمكن للإنسان أن يكتسب القدرة على المغفرة؟

لا يمكن أن ننكر الدور الذي تلعبه التربية والنشأة لكل منَّا في تعامله مع الإساءة ومدى قدرته على المسامحة والمغفرة، كما لن نستغرب وجود عوامل جينية قد تكشف عنها الأبحاث تجعل من بعض الأشخاص أكثر قدرة على المغفرة من غيرهم، لكن ما نحن متأكدون منه أنَّنا جميعاً قادرون على المغفرة والتسامح، وأن التسامح ليس حكراً على الأنبياء أو الأولياء.

في ضوء هذه الرؤية تقوم عدَّة هيئات علمية واجتماعية بمحاولة نشر ثقافة التسامح من خلال إنشاء برامج تدريبية معدَّة خصيصاً لتعزيز هذه القيم، منها مشروع الغفران في سيراليون الذي بدأ عام 2007 مع مجموعات من سكان سيراليون الذين عايشوا الحرب الأهلية، ومن الملفت أن المشروع اتجه لتثبيت قيمة التسامح ضمن مناهج تعليمية، هذه التجربة وغيرها تثبت إمكانية تعلم المغفرة والانتقال إلى التسامح والتخلص من الأحقاد.

كيف يمكن أن أكون متسامحاً؟

لنكون صادقين وواقعين لا يوجد وصفة سحرية للتسامح، فالإنسان الذي يتعرض للأذى المادي أو المعنوي لن يكون قرار المغفرة لديه قرار بسيط أو تلقائياً، إنَّه كما ذكرنا إمَّا تغليب أو تغلب على الفطرة، في الحالتين كلتيهما هناك معركة طاحنة - إن صح التعبير - بين مشاعر الإنسان السلبية تجاه الشخص الجاني من جهة وبين قدرته على التسامح من جهة أخرى.

لم يقف المختصون عاجزين أمام هذه الصعوبات، فطوروا برامج عديدة تساعد الأشخاص الذين تعرضوا للإساءات على اتخاذ قرار المغفرة والوصول إلى التعاطف والتسامح، وقد بينت دراسة نشرها موقع (Psycnet.apa) أنَّ الأشخاص الذين تعاملوا مع هذه البرامج العلاجية تمكنوا من تحقيق نتائج جيدة بقدرتهم على المغفرة، كما انعكس ذلك على حياتهم مباشرة من خلال التخلص من الغضب والاكتئاب والاضطرابات الأخرى.

برامج المغفرة والتسامح

تستخدم البرامج العلاجية التي تهدف لمساعدة الأشخاص في التخلص من الضغائن أساليب مختلفة كلها تنطوي تحت الدعم أو العلاج النفسي والوصول بالضحية إلى مرحلة تفهم الجاني والتعاطف معه (متلازمة ستوكهولم)، وبالتالي تهدف إلى التخفيف من التوتر والاكتئاب والوصول إلى المسامحة والمغفرة، هناك نماذج متعددة منها مثلاً نموذج إنرايت (Enright"s forgiveness therapy process model) الذي يسير في أربع مراحل:

  1. التعبير عن المشاعر السلبية والبوح بها وتحديد الأشخاص الذين نشعر بالضغينة تجاههم.
  2. اتخاذ قرار الغفران.
  3. العمل للوصول إلى المغفرة من خلال محاولة تفهم الموقف، التفكير بتجاوز الألم والرحمة، محاولة تقبل الشخص الجاني.
  4. المرحلة الأخيرة ستكون للتحرر من سجن العواطف السيئة، وفهم حاجتنا إلى التسامح والمغفرة.

خطوات وضعها الدكتور واين داير لمسامحة من سببوا لنا ألما

الدكتور واين داير واحد من أبرز مؤلفي كتب المساعدة الذاتية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن بين مؤلفاته وضع خمس عشرة خطوة للوصول إلى المغفرة والتسامح (How To Forgive Someone Who Has Hurt You: In 15 Steps) وعيش حياة آمنة ومستقرة من خلال التخلي عن الكراهية والضغينة.

لكن هذه الخطوات قد تكون فعالة في المستويات المنخفضة من الإساءة، والتي قد تحصل في حياتنا اليومية كالمشاكل الزوجية أو الشجار مع الأصدقاء، حيث نعتقد أن الأشخاص الذين تعرضوا لإساءات كبيرة كالاعتداءات الجسدية والجنسية والإهانات الكبيرة ربما لن يستفيدوا من خطوات بهذه البساطة، ونعتقد أن بعض هذه الخطوات أيضاً مبالغٌ بها قليلاً من حيث المثالية، وقد يرى البعض أن فيها تحاملاً على الضحية أكثر من الجاني!.

إليكم الخطوات التي وضعها الدكتور واين داير للتسامح:

  1. المضي قدماً والبدء بالتفكير والعمل للمستقبل بدلاً من التفكير بالإساءة الراهنة والإساءات السابقة.
  2. إعادة الاتصال بالروح واللجوء إلى الجانب الروحي من الشخصية بهدف الشعور بالأمان.
  3. لا تذهب إلى النوم غاضباً مهما كان الأمر.
  4. لا تلقي اللوم على الآخرين قبل أن تفهم نفسك جيداً.
  5. أيضاً تحمل المسؤولية عن الجزء الخاص بك، وتأكد من تحديد هذا الجزء بدقة.
  6. الابتعاد عن دور المسيطر والتوقف عن إخبار الآخرين بما يجب أن يفعلوه، ذلك سيساعدنا أكثر على فهم أنفسنا وفهم الآخرين، ويقلل فرص تعرضنا للتجريح أو الاصطدام مع الآخرين، كما يزيد من تفهمنا لظروفهم؛ لأننا لا نتعامل معهم من موقع المسيطر.
  7. كن كالماء، بحيث تستطيع الوصول إلى النقاط الضيقة من ذاتك وذوات الآخرين، فعندما تكون صلباً وصعب المراس لن تتمكن من تفهم مشاعرك ومشاعر الآخرين.
  8. وضع حد للإساءة، من خلال التفكير أن الإساءة تستمر حسب طريقة التعامل معها، فيجب أن نحاول تجنب الخوض في الشجار، ولنتذكر أنه لا يوجد عواصف تدوم إلى الأبد.
  9. التخلي عن الانتقام عملاً بالمثل الصيني القائل: إن كنت تريد الانتقام فاحفر قبرين.
  10. العطاء، والعطاء هنا هو عطاء عاطفي ومعنوي بمنح المحبة للآخرين حتَّى في أوقات الشجار.
  11. لا تتوقع الإساءة من الآخرين ولا تنتظرها، فتقييمك أنَّهم سيتصرفون بشكل سيئ سيؤدي إلى شعور مضاعف لديك بالإهانة نتيجة سلوكهم حتَّى وإن لم يكن سيئاً بالمطلق.
  12. هنا والآن؛ يجب أن نعيش حياتنا هنا والآن.
  13. استيعاب الأوقات السيئة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الحياة.
  14. تخلى عن دور الحكم، وتوقف عن إطلاق الأحكام لتعيش بسلام.
  15. المحبة هي الطريق المثالي للوصول إلى التصالح الذاتي والمسامحة، كما أن إشاعة هذه المحبة ونشر التعاطف يساعد على الوصول إلى الرضا الداخلي.

ختاماً... لا ندَّعي أن الإنسان قادر على اتخاذ قرار المغفرة بهذه البساطة، ونعتقد أن المغفرة والمسامحة لا تكون بتجنيب الجاني للعقاب القانوني في حالات الاعتداءات التي يعاقب عليها القانون، بل تكون المغفرة ألَّا نشعر بالتشفي أو الرغبة بالانتقام، وربما من الملفت أن تصل السيدة الإيرانية سميرة نجاد إلى مرحلة قصوى من المغفرة عندما عفت عن قاتل ابنها قبل إعدامه بلحظات وحبل المشنقة ملفوف حول رقبته، وقالت إنَّ ابنها القتيل زارها في المنام، وطلب منها العفو عن قاتله وعدم الانتقام، كذلك فعلت سيدة سعودية مع قاتل ابنها، فعفت عنه بدون أي مقابل مادي.

ليالينا الآن على واتس آب! تابعونا لآخر الأخبار