مسلسل "ساق البامبو": تحريك المياه الراكدة اجتماعياً وفنياً
رشا عبدالله سلامة
حتى وقت ليس بالبعيد، بل إلى ما قبل عرض مسلسل "ساق البامبو" في الشهر الجاري، كان ضرباً من الخيال أن يبدأ الفن الخليجي بتحريك المياه الراكدة منذ عقود حيال قضايا حساسة من قبيل العنصرية وإساءة معاملة العمالة الآسيوية والنظرة الدونية لمن لا يحمل جواز سفر خليجي، وقضايا أخرى من قبيل العلاقة التي تنشأ في مرات كثيرة بين الخادمة ومخدومها، وقضايا الحب في الخفاء بسبب تزمّت كثير من البيئات التقليدية العربية عموماً والخليجية خصوصاً، وتعقيدات الزواج بين من ينتمي لقبيلة معروفة من جهة، ومن ينتمي لقبيلة أقل شأناً من جهة أخرى.
يعلم الروائي الكويتي، رفيع التهذيب، سعود السنعوسي أن روايته "ساق البامبو"، التي أحدثت ضجة كبيرة بمجرد أن صدرت، أنها ستلقى الرواج ذاته حين يصار لتحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، كما حدث حالياً حين أخرجها محمد القفاص ومثّلتها الكويتية سعاد العبدالله مع عدد من النجوم الخليجيين والفلبينيين والكوريين.
بدورها، استطاعت العبدالله في "ساق البامبو" صنع الدور التاريخي الذي يبحث عنه كل ممثل طوال مسيرته؛ ذلك أنها خرجت من نمطية الأدوار التي لعبتها طوال الأعوام الماضية، فأبدعت هذه المرة في "ساق البامبو" في دور المسنّة النزِقة، التي تحمل إرثاً عنصرياً ثقيلاً يحدِث لديها صراعات كثيرة لا سيما حين تخالجها مشاعر الأمومة والإنسانية للحظات.
تمتد أهمية العبدالله في "ساق البامبو" لما هو أبعد من إتقانها وتجلّيها في أداء الدور المناط بها، لتصل إلى قيمة الدور ورمزيته العالية؛ ذلك أن غنيمة الطاروف، برغم عنصريتها الشديدة، تقدم صورة لافتة عن المرأة العربية في حقب زمنية مضت؛ إذ كانت على درجة من القوة والصلابة والحسم والحرص على السويّة الجمالية العالية بشكل يفوق كل ما تزعم التيارات النسوية الحالية أنها حققته حالياً. يظهر هذا البون الشاسع عند مقارنة شخصيتها بشخصية بناتها، اللاتي ظهرن على قدر من الكآبة والهشاشة والسطحية في مرات والتزمّت بقشور دينية أعاقت الحياة أكثر ممأ سهّلتها.
إلى جانب أهمية رواية السنعوسي، التي حرّكت الراكد من مياه اجتماعية، فإن المسلسل حرّك بدوره المياه الراكدة فنياً؛ ذلك أن معظم الأعمال الكويتية باتت توسم مؤخراً بكمية عنف مبالغ بها، وقضايا اجتماعية يتمحور أغلبها حول النزاع على الميراث في العائلات الثرية وقضايا الزواج كالعنف والخيانات، بيد أن "ساق البامبو" ذكّر المجتمع الخليجي بقضية بالغة الخطورة وهي العنصرية حيال فئة البدون وحيال العمالة الوافدة وتحديداً الآسيوية، والتي كانت حتى أمس قريب قضية مسكوت عنها. ولعلها من المرات القليلة التي يكون فيها ديكور المنزل الباذخ مبررَاً درامياً، وليس من باب الحشو والاستعراض المبالغ به كما يحدث في غالبية المسلسلات الكويتية.
ثمة ثغرات بسيطة داهمت الحوارات في مرات، من قبيل إثقالها بكثير من الأيديولوجيا وتحديداً لدى الناشطة في حقوق الإنسان، بالإضافة للأداء الدرامي المبالغ به لدى بعض الشخصيات طوال الوقت، إلى حد ظهرت فيه هذه الشخصيات بمن تهجس بالآلام أربع وعشرين ساعة بما لا يدع مجالاً حتى للابتسام أو المزاح، إلى جانب العبارات العفوية التي حاول القائمون على المسلسل مهاجمة العنصرية من خلالها، فإذ بها تقع في فخ العنصرية، كمثل قول ابنة راشد الطاروف الرافضة للعنصرية "لماذا لم يسمحوا لكِ يا عمّة بالزواج من رجل من فئة البدون، فيما تزوجت بعض النساء الكويتيات من مصريين وسوريين؟"، وكأنما يعدّ الزواج من مصري وسوري تنازلاً كبيراً ودليلاً على رحابة الصدر والتواضع!
عوامل نجاح عدة تكاتفت لإنجاح العمل، بدءاً بأغنية المسلسل التي قدّمها المطرب عبادي الجوهر باقتدار، مروراً بالموسيقى التصويرية التي ألّفها البحريني جمال القائد، والذي أثبت من خلال أعمال درامية عدة مقدرته الفائقة على ترجمة العمل الأدبي لموسيقي بامتياز، وليس انتهاءً بجزئية وجود ممثلين من جنسيات عدة، عدا عن الإطلالة التي أجراها القفاص على حياة الفلبين وطبيعتها وبيئتها، وإن كانت هذه الإطلالة لا تضاهي العمق والإسهاب الذي قام به السنعوسي في نص الرواية.
ضَمِنَ المسلسل، باعتماده الرواية الشهيرة أساساً له، النجاح المبدئي والإقبال اللافت، عربياً وليس كويتياً فحسب، بيد أن القادم من الأيام سيُظهِر إن كان المسلسل سيفلح حتى النهاية في محاولته الدؤوبة استرعاء انتباه المُشاهِد وابتكار عوامل جذب من قبيل إقحام شخصيات طريفة لم تتواجد في نص الرواية، ومن خلال تقنية الفلاش باك التي تطلّ على حياة بطل الحكاية أثناء عيشه في الفلبين بعد ان كادت أحداث الكويت تنفد في المسلسل، ومحاولة ابتكار حكايات رومنسية على هامش الحكاية الأصلية، وما إلى ذلك من حركات بهلوانية تسعى لإنقاذ النص شحيح الأحداث غزير المناقشة الفكرية، والذي شكّل اختياره منذ البدء تحدياً للقائمين على المسلسل حين اعتمدوا رواية مهمة وذات خصوصية عالية مثل "ساق البامبو".
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.