تاريخ مصر الفرعونية في عصر الاضمحلال الأول (الفترة الانتقالية الأولى)
قسَّم المؤرخ المصري مانيتون تاريخ مصر الفرعونية إلى ثلاثين أسرة حاكمة، وهو ما عرف بعصر الأسرات الذي يمتد من توحيد مصر العليا ومصر الدنيا في حوالي 3200 قبل الميلاد حتَّى احتلال مصر من قبل الفرس 341 قبل الميلاد.
حيث يتم تقسيم هذه الفترة إلى أربع مراحل أساسية هي: عصر الأسرات المبكر، عصر الدولة القديمة، عصر الدولة الوسيطة، ثم عصر الدولة الحديثة.
في هذه المادة سنتعرف معاً على مصر الفرعونية في بداية عصر الدولة الوسطى أو العصر الوسيط الذي يمتد من نهاية حكم الأسرة السادسة وبداية حكم الأسرة السابعة حوالي سنة 2181 قبل الميلاد حتَّى انتهاء حكم الأسرة السابعة عشرة سنة 1567 قبل الميلاد.
يبدأ العصر الوسيط في الدولة المصرية مع صعود الأسرة السابعة إلى الحكم
يبدأ العصر الوسيط مع انتهاء حكم الأسرة السادسة وبداية حكم الأسرة المصرية السابعة وفق ما يتفق عليه الباحثون، أي من حوالي سنة 2181 قبل الميلاد وحتَّى سنة 1576، ويتم تقسيم هذه الفترة إلى ثلاث مراحل هي:
- عصر الاضمحلال الأول من سنة 2181 ق.م وحتّى سنة 2040 ق.م، تعرف هذه الفترة أيضاً بأسماء أخرى مثل العصر الوسيط الأول أو الفترة الانتقالية الأولى، أو الثورة الاجتماعية، أو عصر اللامركزية الأول، وهو موضوع هذه المادة. وقد نجد بعض المصادر تشير إلى تاريخ مختلف قليلاً (2160-2060 قبل الميلاد) لكن هذا ليس بالفرق الكبير عندما نتحدث ضمن الألف الثالث قبل الميلاد، حيث حكمت خلال هذه الفترة الأُسر من السابعة حتَّى العاشرة.
- عهد الدولة الوسطى من سنة 2040 ق.م وحتَّى 1785 ق.م، الذي تميز بإعادة توحيد مصر الفرعونية على يد حكام طيبة، لكن نهايته آذنت بدخول مصر في عصر اضمحلال جديد.
- عصر الاضمحلال الثاني أو العصر الوسيط الثاني من سنة 1785 ق.م وحتَّى سنة 1576 ق.م، حكمت خلاله الأسر من الثالثة عشرة وحتَّى السابعة عشرة، ومن ضمنها فترة احتلال الهكسوس.
الانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الوسيطة
شهد عصر الأسرات المبكر وعصر الدولة القديمة توحيد الدولة المصرية وتوطيد الدولة المركزية، كما شهد تطوراً ملفتاً في كل جوانب الحياة، خاصة تطور بناء القبور في عصر الأسرة المصرية الرابعة التي ينتسب إليها الفراعنة خوفو وخفرع ومنكاورع أو منقرع؛ أصحاب الأهرامات الثلاث الكبرى في الجيزة.
لكن هذا الازدهار الذي شهدته مرحلة الدولة القديمة بدأ بالتراجع تدريجياً مع وصول الأسرة السادسة إلى الحكم، خاصة في عهد الملك بيبي الثاني الذي حكم مصر أكثر من تسعين سنة كانت كفيلة بإنهاك البنية الإدارية للدولة وتفكيك بنيتها المركزية.
تميزت فترة حكم الأسرة السادسة بازدياد نفوذ حكام الأقاليم وتفتت المركزية وقيام الثورة الاجتماعية في نهايتها، ثم دخلت الدولة المصرية في مرحلة الاضمحلال الأولى بعد أن انتهى حكم الأسرة السادسة مع الملكة نيتوكريس وبدأ حكم الأسرة السابعة المنفية نسبة إلى مدينة منف.
عصر الاضمحلال الأول (2181 وحتَّى 2040 قبل الميلاد)
كما ذكرنا سابقاً فقد وصلت الأسرة السابعة إلى حكم مصر حوالي سنة 2181 قبل الميلاد لتجد الدولة المركزية في حالة من الضعف والوهن، ولم تتمكن الأسرات الأربعة (من السابعة حتَّى العاشرة) التي حكمت خلال هذه الفترة من تحسين الوضع، حتَّى أنَّهم بالكاد ذكرت أسماء بعضهم في القوائم التاريخية، ولم تذكر لهم أي إنجازات مهمة.
في كتاب تاريخ مصر لمؤلفته هند اسكندر عموُّن لم تأتي المؤلفة على ذكر هذه المرحلة إلا ببضع أسطر، هذا حال أغلب المؤلفين الذين يشيرون إلى غموض هذه المرحلة وفقدان التفاصيل عنها، تقول هند عمون في كتابها المذكور:
"بعد انقراض الأسرة السادسة الأسوانية (نسبة إلى أسوان) تولتْ المُلكَ أسرتان من منف، ثم خلفتهما أسرتان من أمراء هيراقليو بوليس (عين شمس) وكانت قاعدة ملكهما مدينة أهناس (بمديرية بني سويف)، ولم يتوصل أحد من المؤرخين لمعرفة شيء عن هؤلاء الملوك ولم يذكر مانيثون نفسه عنهم شيئاً ولا حتَّى أسماءهم، وجل ما عرف عن هذه الأسر أن الفراعنة كانوا في الغالب يذهبون ضحية الفتن والثورات."
بناءً على ذلك يمكننا تقسيم عصر الاضمحلال الأول إلى مرحلتين أيضاً
- الأسرتان المنفيتان (الأسرة 7 و 8) نسبة إلى مدينة منف؛ امتدت من نهاية حكم الأسرة السادسة وحتّى سنة 2160 قبل الميلاد تقريباً.
- العصر الأهناسي أو الأسرتان الأهناسيتان نسبة إلى مدينة أهناسيا (الأسرتان 9 و 10)، وامتد حكمهما من سنة 2160 وحتى سنة 2040 قبل الميلاد.
الأسرتان السابعة والثامنة المنفيتان (2181 وحتَّى 2160 قبل الميلاد)
ساد الفقر والبؤس فترة حكم الأسرتين السابعة والثامنة، كما ازدادت الفوضى التي بدأت منذ عهد الأسرة السادسة، حيث يذكر الدكتور ناصر الأنصاري في كتابه المجمل في تاريخ مصر أنَّ هذه الفترة شهدت نهباً للقبور واختلالاً أمنياً، كما تلاشت خلالها السلطة المركزية فضلاً عن غارات البدو من الصحراء على الدلتا التي عاثوا بها فساداً.
حتَّى أن المؤرخ المصري من عهد البطالمة مانيتون السمنودي؛ أشار إلى سبعين ملكاً من الأسرة السابعة حكموا سبعين يوماً دون أن يذكر أسماءهم، هذا يعني أن بعض الملوك حكموا لساعات فقط ولم يكملوا يوماً كاملاً.
يشكك أغلب الباحثين بصحة هذه المعلومات ويعتبرونها "مبالغة غير قابلة للتصديق"، إلَّا أنها تؤكد على حالة الفوضى التي سادت في تلك الفترة كما يرى الدكتور محمد جمال الدين مختار في (موسوعة تاريخ مصر عبر العصور-تاريخ مصر القديمة)، كذلك يشير الدكتور مختار إلى أن الغموض الذي يكتنف حكم الأسرة السابعة دفع البعض إلى إنكار وجود هذه الأسرة واعتبارها امتداداً للأسرة السادسة.
ولا يمكن أن نتجاهل ما عرف بـ "الثورة الاجتماعية الأولى" التي تمثلت بانتفاضة عنيفة من الفقراء بمواجهة الأغنياء وبمواجهة السلطات الحاكمة والمؤسسة الدينية، وإن كنا لا ندري كم امتدت هذه الأحداث الدامية في مصر إلَّا أنَّ الواضح لدينا هو استمرار التوتر وأعمال العنف من نهاية حكم الأسرة السادسة وخلال فترة حكم الأسر الأربعة في مرحلة الضعف الأولى، وقد أفردنا مادة مستقلة للحديث عن الثورة الاجتماعية الأولى.
مميزات حكم الأسرتين الفرعونيتين السابعة والثامنة
- أصبحت المملكة المصرية على حافة الهاوية خلال حكم الأسرتين السابعة والثامنة، وكانت عاجزة اقتصادياً؛ ما جعلها تتوقف عن إرسال البعثات إلى المناجم والمحاجر في سيناء.
- انعكس تردي الأوضاع الاقتصادية لمصر في هذه الفترة مباشرة على الحالة العمرانية، فتوقفت الدولة عن تشييد المعابد والمراكز الدينية، كما غابت الأهرامات العظيمة التي ميزت حكم الأسرات القديمة وخاصة الأسرة الرابعة، فلا يوجد إلَّا هرم صغير يعود للملك ايبي من الأسرة الثامنة بناه في سقارة.
- تراجعت القدرات الإنتاجية والفنية والمعمارية بشكل ملحوظ خلال هذه الفترة.
- لم تكن علاقة مصر جيدة بالجوار في هذه المرحلة، فكانت الغزوات التي تعرضت لها البلاد من البدو الآسيويين من أسوأ مشكلات هذه المرحلة، ولم يكن القصد من هذه الغزوات الاحتلال بقدر ما كان الهدف هو السرقة والنهب.
- كذلك فقدت مصر سيطرتها على الجنوب؛ فنشأت حضارة جديدة في النوبة الدنيا والعليا والتي تعرف الآن بحضارة المجموعة (ج).
- اعتمدت الأسرة الثامنة على دعم من حكام الأقاليم الأقوياء، خاصة حكام مدينة قفط حيث بلغ نفوذ العائلة الحاكمة في قفط حد السيطرة على الدولة على ما يبدو لكن لفترة قصيرة يصعب تحديدها، والبعض يدعو هذه السنوات باسم "الأسرة الثامنة القفطية"، حيث يستدل عليها من الامتيازات والتعيينات التي حصل عليها الحاكم القفطي شماي وابنه ايدي.
- إلى جانب اتساع نفوذ حكام الأقاليم وتردي أحوال الاقتصاد المصري يمكن القول أن الأسرات المنفية السابعة والثامنة كانت تحصد نتائج الحكم الفاشل لملوك الأسرة السادسة، إذ ورثت عنه مجتمعاً مفككاً يحكمه الحقد الطبقي وأعمال العنف والنهب، فلم يتمكن ملوك هذه الأسر من تعديل المسار.
الأسرتان التاسعة والعاشرة والعصر الإهناسي (2160 وحتَّى 2040 قبل الميلاد)
في ظل تفكك الدولة أثناء حكم الأسرات المنفية وضعف المركزية وتعاظم دور حكام الأقاليم استطاع الملك خيتي حاكم مدينة إهناسيا أن يعلن نفسه حاكماً لمصر من مدينة أهناسيا (مدينة إهنيس أو أهناسيا المدينة غرب محافظة بني سويف عند مدخل الفيوم)، بذلك استطاع الملك خيتي أن ينهي عصر الأسرات (السابعة والثامنة) المنفية (نسبة إلى مدينة منف أو ممفس) لتدخل مصر القديمة في عصر الأسرات الإهناسية والتي اتخذت من إهناسيا عاصمة لها.
لا يوجد تبرير واضح فيما يتعلق بانتقال مانيتون من الأسرة التاسعة إلى العاشرة
يشير المؤرخ المصري مانيتون إلى أن الملك خيتي الأول (مري ايب رع) مؤسس الأسرة التاسعة كان قاسياً مخبولاً، لكن لا يوجد ما يوضح لنا فعلياً سبب هذه الصفات، كما يشير إلى أن الملك مات افتراساً من قبل تمساح، لكن هذه المعلومة أيضاً لا نعرف سبيلاً للتثبت من صحتها، لكننا نزعم أن الملك ربما كان قاسياً فعلاً، وهي الحالة الطبيعية لملك يعتلي العرش في فترة من التوترات والصراعات الداخلية.
من جهة أخرى أنهى مانيتون حكم الأسرة التاسعة وبدأ مع الأسرة العاشرة دون وجود أسباب واضحة، خاصة أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى الأسرتين الإهناسيتين كأسرة واحدة، حيث تشير بردية تورين إلى 18 ملكاً إهناسياً من أسرة واحدة، ويشير أفريكانوس إلى أن عدد ملوك الأسرتين التاسعة والعاشرة هو تسعة عشر ملكاً.
على العموم وحتَّى الآن يمكن الحديث عن الأسرتين كأنهما أسرة واحدة، حيث تنتمي الأسرتان إلى العائلة نفسها على الأغلب، كما أن مميزات فترة حكمهما هي ذاتها، لكن أغلب المؤرخين يلتزمون بتقسيم مانيتون وإن اعترضوا عليه.
مميزات حكم الأسرتين التاسعة والعاشرة الإهناسيتان
- لم تكن حال الأسرتين التاسعة والعاشرة أفضل من حال الأسرتين السابعة والثامنة عموماً، مع محاولات بعض الملوك مثل نفر كارع وخيتي الثاني لإصلاح الوضع، لكنها لم تكن ذات أثر.
- حاول ملوك "بيت خيتي" أن يفردوا سلطتهم على مصر كلها، وقد نجحوا إلى حد ما بصد غزوات البدو القادمين من الشرق.
- عُرف من الملوك خيتي الأول مؤسس الأسرة التاسعة والعاشرة والذي يبدو أنَّه كان صارماً وفقاً لما يذكره مانيتون، إضافة إلى الملك خيتي الثالث الذي خاض معارك مهمة مع حكام طِيبة، كما أنَّه صاحب الوصايا المشهورة التي تركها لابنه مريكا رع، ومريكا رع هو الملك الوحيد الذي عُثر على هرمه بجبانة سقارة.
- يبدو أنَّ وصول أحد حكام الأقاليم إلى حكم مصر عزز أطماع حكام الأقاليم الأخرى بالوصول إلى حكم الدولة كلها، لذلك كان هناك نزاعات بين ملوك الأسرتين التاسعة والعاشرة من جهة وحكام الأقاليم خاصة حكام مدينة طيبة من جهة ثانية.
- استقلت بعض الأقاليم مع خضوعها اسمياً إلى سلطة الدولة المركزية، حيث أسست خزائناً وجيوشاً، كما بدأ كل إقليم يؤرخ لنفسه بغض النظر عن الحوليات الملكية، كما جبت بعض الأقاليم أموالها لصالحها من المناجم والمحاجر.
نهاية عصر الاضمحلال الأول في مصر الفرعونية
كانت العلاقة بين مدينة طيبة الجنوبية ومدينة أهناسيا رأس الدولة علاقة جيدة أو على الأقل ليست متوترة، لكن هذه العلاقة بدأت تتوتر مع تعاظم قوة طيبة، ثم تحول التوتر إلى حرب. ليست حرباً بين مملكةٍ وحكام إقليم؛ بل بين مملكتين قويتين، حيث امتدت هذه الحرب أكثر من تسعين سنة عرفت فترات من السلم والهدنة وتغلب طرف على آخر.
كان الملك خيتي الثالث هو آخر الملوك الأقوياء في أهناسيا فعلياً، كما كان أمراء أسيوط حلفاءً للأسرة العاشرة الإهناسية، لكن تقدم جيش طيبة في مصر الوسطى كان انكساراً للملك جعله يكتب وصاياه المشهورة إلى ابنه، التي نقل من خلالها فلسفته بالحياة بعد حربه مع طيبة.
مدينة طيبة المصرية دولة داخل الدولة
فعلياً تتقاطع فترة حكم الأسرة العاشرة الإهناسية مع فترة حكم الأسرة الحادية عشرة الطيبية، حيث أسس حكام مدينة طيبة الجنوبية مملكتهم بالتدريج إلى أن أعلنوا استقلالهم عن أهناسيا وأطلقوا على أنفسهم: حكام مصر العليا والدنيا، هذا يعني أن الأسرة الحادية عشرة أعلنت توليها حكم مصر كاملة من الجنوب قبل أن تسقط الأسرة العاشرة في الشمال، وهذا يعكس مدى التوتر الذي عاشته مصر تلك الفترة.
انتهى هذا الصراع بسقوط الأسرة الإهناسية على يد حاكم طيبة منتحوتب الثاني، الذي جلس على عرش مصر الموحدة مجدداً بعد فترة طويلة من الصراعات والمشكلات الداخلية والخارجية، ومع وصول الطيبيين إلى حكم مصر الموحدة دخلت الدولة في عهد الدولة الوسطى الذي يشكل المرحلة الثانية من العصر الفرعوني الوسيط.
ختاماً... يتفق الباحثون والمؤرخون أنَّ فترة الاضمحلال الأولى تعتبر من أكثر فترات الدولة الفرعونية ظلاماً، فالتوتر كان سيد المواقف في جميع جوانب الحياة، وكانت وحدة مصر على المحك طيلة هذه الفترة نتيجة صراع أمراء الأقاليم مع بعضهم ومع الحكومة المركزية في إهناسيا فضلاً عن أحداث الثورة الاجتماعية الأولى.
وإذا نظرنا إلى التسميات المختلفة لهذه المرحلة يمكن أن نلخص ما كان يحصل، فالتسمية الأولى "عصر الاضمحلال الأول" يشير إلى فترة حكم الأسرتين السابعة والثامنة الذي شهد استمراراً بتفكك المركزية وضعف الدولة، أمَّا تسمية "العصر الانتقالي الأول" فهي إشارة إلى الأسرتين التاسعة والعاشرة حيث تعتبر فترة حكمهما فترة انتقالية بين إهناسيا وطيبة.
إضافة إلى تسمية "مرحلة الثورة الاجتماعية الأولى" والتي تشير إلى الانتفاضة الاجتماعية والأدبية التي شهدتها مصر بين نهاية الدولة القديمة وبداية هذا العصر، مع ذلك تصح الإشارة إلى هذه المرحلة بأي واحدة من هذه التسميات.