بانتظار الشوكولاتة
بانتظار الشوكولاتة أنجزت الكثير…
في البدء قررت أن أتجول في الأفكار، وأخيط خيوط الملل، وأسبح في الظلام، فقد وصلت باكرًا... كنت في فيغاس مدينة التناقض والمباهج اللامتناهية برفقة زوجي في زيارة عمل، ولأني كما تعلمون أبدأ يومي برائحة القهوة ومذاقها الصباحي المنتظر، رحت أبحث عنها في ساعة مبكرة من الصباح كمن يمشط الشوارع بخطوات دقيقة لتستعد لاستقبال المارين بها بعدي، ومن عاداتي أيضاً أن يرافق قهوتي الصباحية قطعة صغيرة من الشوكولاتة، صدفة وجدت ضالتي، متجرًا يلبي رغبة مذاقي المزاجيّ المتطلب. لم أتوقع أن المدينة التي لا تنام لا تستيقظ محالها باكرًا مثلي، وجدته مغلقًا، وبذريعة أن اللذة لا تكتمل إلا باكتمال تفاصيلها، انتظرت... جاذبية المكان وهدير الموسيقى واستعداد العاملين في المحلات حولي لبداية نهارهم أضاف لانتظاري متعة لا تنسى.
جلست برفقة كوب القهوة الورقي الساخن أحتضن سخونته علها تنتظر معي قطعة الشوكولاتة، بينما كانت أنظار المارين والجالسين تنجذب قسرًا نحو جمال فتاة طويلة دون مساعدة الكعوب العالية، بدا لي أنها تعمل في أحد المحلات المقابلة، تحاول رفع الباب الحديدي لذلك المتجر، كان طولها يتناسب عكسيًا مع طول فستانها، مما جعل الأنظار معلقة عليه أكثر منها، هم تابعوا تحركاتها وأنا تابعت نظراتهم.
رغم أن الملل ما كان ليجد أي سبيل للوصول إلي في شارع مليء بالغرائب كالذي بفيغاس، إلا أني رحت بتأنٍ لافت وبدقة أرد على عدة رسائل هامة في بريدي الإلكتروني كانت عالقة منذ يومين وتنتظر مني دقائق كهذه، ثم دونت بعض الأفكار التي كانت تشغلني ولم يكن باستطاعتي نقل إحساسي بها عبر الكلمات، ووجدتني على بعد كلمات من إنهاء مسودة مقال بدأت كتابته ثم انشغلت. فجأة، أيقظ شرودي المليء بالإنتاجية عشر رجال في زي البحارة اصطفوا متشابكي الأيدي وينشدون بحماسة عالية وكأنهم ينشدون النشيد الوطني لدولة العمل التي تنتمي إليها ساعات يومهم القادمة، تفرقوا وأخذ كل منهم مكانه، هكذا يبدؤون يومهم، كانوا ينظمون جولات في قارب صغير، Gondola كما يسمونها، حين انتهوا من نشيدهم وجدت محل الشوكولاتة خلفهم قد بدأ نهاره هو الآخر، توجهت إليه، اشتريتها سوداء محشوة بحبات اللوز، تناولت القليل منها مع ما تبقى من قهوتي التي أصبحت باردة، خمس عشرة دقيقة كانت كافية لأنجز الكثير من مهام بدت صغيرة رغم أهميتها وتراكمت حتى تعاجزت عنها، قد تكون لعنة الانتظار هبة أحيانًا.
تلك الأفكار ثمرة وقتي القليل، وما زلنا نلوم الوقت لا أنفسنا… جميل أن ننحني أمام هيبة الوقت، والأجمل أن نترفع عن إهداره لنملك مزيدًا من العمر، فليس وحيدًا من أدار زمانه.
فكرت في همّ صديقتي الدائم في مقارنة نفسها بزوجها الذي لمع جهده ونجاحه أكثر منها، لأنها لم تستطع يومًا أن تدير وقتها بينما كان هو كما تلقبه وتعترف "ملك الوقت"، رغم أنهما يحملان نفس الشهادة العلمية وأتيحت لهما ذات الفرص، لكن الوقت كان وما زال عدوها الذي جنى على أحلامها. وتذكرتُ أيقونات النجاح التي نتتبع أخبارها وملايينها، فوقتها توأم النجاح، لأن من نازل الوقت وانتصر عليه فقد أدرك عمره وزمانه.
كيف يزهد البعض في كل شيء بينما طائي كرمهم يسمح لهم إسراف ساعات يوميًا أمام التلفاز، يفيض بهم الفضول لمعرفة قصص وهمية ويضعون قصص حياتهم وتفاصيلها جانبًا ثم يجدون الوقت حجتهم المقنعة حين لا ينجزون ما أرادوا، إن كانت الرياح تسير كما تشتهي أقدارنا لا الأمنيات، فلا بأس من تجديف الأماني لزورق حياتنا، فقد يتغير مسارها.
بالوهم نحن مسكونون، فحرب الزمن مفخخة بالكسل، هل تغفر لنا محكمة الأحلام إسرافنا في الوقت وترفنا في طلب المزيد، كم خططنا ونحن على يقين أنها خطط لن ترى نور الوجود ما دمنا لم نسع إليها بجهدنا ووقتنا.
هو الوقت، للبعض هاجس مقلق بانتظام، وللبعض حلم عابر بفكرة وحنين لماضٍ لن يعود، وللبعض كأن شيئًا لم يكن، هو خارج نطاق تحركات أفكارهم اليومية.
تمضي الحياة سريعًا وكأن حلمًا لم يزر يومًا أرواحنا، لا تعكروا صفو أمنياتكم بل حققوا ما تيسر منها قبل أن تنكس أعلام العمر، فحين يغادرنا الزمن يحفر آثار وجوده السابق بعمق، فأخطاء الزمن لا تغتفر وتقاس بأعمارنا، وكأنه اختبار دائم يرافق أيامنا.