اضطرابات الشهية، أسبابها وطرق علاجها
بالرغم من الاكتشافات الطبية والوراثية المتلاحقة التي تثبت مشاركة عدد كبير من العوامل الوراثية والبيولوجية والنفسية بآليات معقدة في عملية الشهية للطعام وتفضيل أصناف على أخرى.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
لا تزال النظرة التقليدية قائمة -ولا سيّما في مجتمعاتنا العربية- والتي ترى الشهية أمراً بسيطاً مرتبطاً بالجوع والحاجة لتناول الطعام أو ملء وقت الفراغ فقط، كما تعد السيطرة عليها بحاجة فقط للقليل من الصبر وقوة الإرادة.
من أجل تصنيف الاضطرابات؛ في هذا المقال سيتم التصنيف وفقاً للنسخة الخامسة من دليل تصنيف الاضطرابات النفسية (DSM-5V) الصادر عن الجمعية الأميركية للطب النفسي عام 2013، وسنتحدث بشكل مفصل عن ثلاثة اضطرابات شهية مهمة، وهي:
- القهم العصابي أو فقدان الشهية العصبي (Anorexia Nervosa).
- النهم العصابي؛ البوليميا أو الشره المرضي (Bulimia Nervosa).
- اضطراب الأكل المتواصل أو اضطرابات الشراهة خلال تناول الطعام (Binge-eating Disorder).
إضافة إلى عدد من الاضطرابات الأخرى.
فقدان الشهية العصبي للطعام (Anorexia Nervosa)
يدعى اختصاراً بالقهم أو انقطاع الشهية، وفيه يرى المريض نفسه دائماً شديد البدانة حتى وإن كان نحيلاً بشكل خطير، ويتميز بالسعي المستمر وراء "الرشاقة" بحسب وصف المرضى ومراقبة الوزن بشكل يومي ومستمر.
يصيب القهم الفتيات في سن المراهقة في بلدان العالم الأول بشكل خاص، ويميل لإصابة الفتيات المتابعات للإعلام الإلكتروني وأخبار الموضة والأزياء مما يوجه إصبع الاتهام نحو شركات الأزياء الشهيرة، التي رسمت تلك الصورة النمطية المستحيلة للجسد الأنثوي، مشكلة أحلاماً صعبة المنال لدى المراهقات اللاتي يسعين وراء السراب في محاولة الوصول إلى الجسد المثالي.
يمكن تشخيص درجات القهم وفق مشعر الكتلة الجسدية (BMI)، وهو حاصل قسمة وزن الجسم بالكيلوجرام على مربع الطول بالمتر، فبالنسبة لشخص طوله 180 سم ويزن 70 كيلوجراماً تكون قيمة (BMI) حوالي 21.6.
تتراوح القيم الطبيعية لمشعر BMI بين 18.5-24.9 وكلما تناقصت هذه القيمة نقول إن درجة القهم أكبر، ليصل إلى مراحل شديدة ويصبح مهدداً للحياة عند قيم أخفض من 14، ومن الجدير بالذكر أن القهم العصابي يحمل أعلى معدل وفاة للمصابين به من بين جميع الاضطرابات النفسية.
أعراض القهم العصبي تتضمن:
- نقص شديد في تناول الطعام.
- نحول شديد.
- السعي المستمر وراء إنقاص الوزن والفشل في المحافظة على وزن جسم طبيعي.
- خوف شديد من زيادة الوزن.
- تصور مشوه لشكل الجسم حيث تتخيل المريضة نفسها بدينة دوماً رغم انخفاض وزنها إلى حد خطير، ورفض مستمر لخطورة هذه الحالة.
يزداد سوء الحالة مع الزمن وتبدأ الأعراض الجسدية بالظهور، فيظهر ترقق العظام بسبب نقص الوارد من المعادن، كما يحدث الإمساك وتباطؤ معدل التنفس وضربات القلب، تضطرب الدورة الطمثية لتنقطع في النهاية، تتساقط الأشعار بالتدريج من الرأس والجسم ويصبح الجلد أصفراً جافاً، إضافة إلى ظهور شعر خفيف ناعم مميز لهذا المرض يدعى (Lanugo)، كما يظهر هذا الوبر الناعم في حالات فقدان الوزن الشديد والهزال؛ كردّ فعل على فقدان الدهون ليكون هذا الزغب بمثابة بطانية تحافظ على حرارة الجسم.
مع تفاقم الحالة، تبدأ الأعراض الجسدية الخطيرة والمهددة للحياة، إذ تتضرر العضلة القلبية من الناحية البنيوية والوظيفية، يتأذى الدماغ بسبب نقص التغذية لفترة طويلة، تنخفض الحرارة بسبب عدم وجود مخزون حراري كافٍ في الجسم مما يسبب شعوراً مستمرّاً بالبرد إضافة إلى الخمول وعدم الرغبة في الحركة.
يظهر فشل الأعضاء العديد في مراحل أكثر تقدمًا وينتهي بالموت في أغلب الأحيان إن لم تتوفر العناية الإسعافية اللازمة.
الشره العصبي للطعام (Bulimia Nervosa)
يعاني المصابون بالنهم العصابي من هجمات متكررة يقوم المريض خلالها بالإفراط في تناول الطعام إلى حد التخمة، يتلو ذلك شعور بالذنب وفقدان السيطرة على الجسد، مما يدفع المرضى للقيام بتصرفات تعويضية لمعاكسة آثار هجمة الشره، إذ يتناولون الأدوية المسهلة ويلجؤون لممارسة تمارين رياضية قاسية بل ويقومون بإرغام أنفسهم على الإقياء في معظم الأحيان، لذلك لا نلاحظ زيادة وزن كبيرة عند المصابين بالنهم العصابي ويبقى مشعر كتلة الجسد ضمن الحدود الطبيعية.
أعراض الشره العصبي للطعام:
تم تحديد الأعراض التالية لتمييز النهم العصابي:
- هجمات متكررة من استهلاك كميات كبيرة من الطعام متبوعة بإجراءات المعاكسة للتخلص من الطعام الزائد كالأدوية المسهلة وتحريض القياء.
- الشعور بفقدان السيطرة على الشهية خلال الهجمات.
- تعتمد ثقة المريض بنفسه وبشدة على شكل الجسم ووزنه.
- اضطراب الحركية المعوية وحدوث الإسهال والإمساك باستمرار، بسبب التحريض الدوائي للإسهال.
- التجفاف واضطراب شوارد الجسم؛ بسبب خروج كمية كبيرة من السوائل عن طريق القيء والإسهال.
راقب محيطك! يمكنك الانتباه إلى هذه العلامات لتمييز المصابين في بيتك أو ضمن أصدقائك:
- أدلة على انخراط المريض في هجمات تناول الطعام المفرط، كاختفاء كمية كبيرة من الطعام من المنزل دفعة واحدة.
- أدلة على اتباع آليات المعاكسة لهجمات النهم: (دخول متكرر إلى الحمام بعد الوجبات مباشرة، رؤية علب الأدوية المسهلة بحوزة المريض أو في سلة المهملات..).
- اتباع المريض نظاماً قاسياً من التمارين الرياضية يواظب عليه برغم الظروف المحيطة كالطقس السيء والمرض والمشاغل اليومية.
- الانسحاب من النشاطات الاجتماعية وتعديل البرنامج اليومي ليناسب فترات الأكل المتواصل.
- تقرحات على ظهر اليدين بسبب استعمالهما لتحريض القياء.
- التهاب الحلق والغدد اللعابية المزمن وتآكل الأسنان؛ بسبب مفرزات المعدة الحامضية التي تخرج مع القياء.
- الشعور بالحرقة نتيجة ضعف منطقة الاتصال بين المري والمعدة بسبب تحريضها على الانفتاح دوماً عند تحريض القيء، وهكذا تصعد مفرزات المعدية الحمضية نحو الأعلى؛ مما يسبب شعوراً متكرراً بالحرقة.
- بشكل عام، يبدو واضحاً من تصرفات المريض وحديثه أن الوزن أصبح اهتمامه الرئيسي وشغله الشاغل.
الشراهة خلال تناول الطعام (Binge-eating Disorder)
يفقد المصابون باضطراب الأكل المستمر السيطرة على وزنهم وشهيتهم، إذ يعانون من نوبات الأكل المستمر المشابهة لتلك الموجودة في اضطراب النهم العصابي، إلا أن الفارق الرئيسي بينهما هو غياب الإجراءات التعويضية كالقيء المفتعل وممارسة التمارين الرياضية القاسية. وهو من أشيع اضطرابات التغذية في العالم، بل وأشيعها على الإطلاق في الولايات المتحدة والصين على سبيل المثال.
نستنتج من التعريف السابق أن المرضى هنا ليسوا طبيعيي الوزن بل يتراوحون بين البدانة المتوسطة وصولاً إلى البدانة الشديدة، التي تعيق المريض عن ممارسة الرياضة لمحاولة تخفيض الوزن حتى، إضافة إلى التسبب بمشاكل جسدية كبيرة وأمراض مرتبطة بالبدانة.
الأعراض والعلامات على إصابتك بالشراهة
يضع تصنيف الجمعية الأميركية للطب النفسي (DSM-V) المعايير التشخيصية الآتية لاضطراب الأكل المستمر:
- هجمات متكررة من الأكل المتواصل، ويتم تشخيص الهجمة بوجود هذين المعيارين:
- تناول كمية كبيرة من الطعام ضمن فترة قصيرة من الزمن (أقل من ساعتين مثلاً) ويتم اعتبار كمية الطعام كبيرة إن تجاوزت ما يتناوله معظم الأشخاص الطبيعيين في وقت مشابه وظروف مشابهة.
- الشعور بفقدان السيطرة على النفس ضمن هذه الهجمات، حيث يشعر الشخص أنه لا يستطيع التوقف عن الأكل أو لا يستطيع تحديد الكمية التي سيأكلها.
- هجمات الأكل المتواصل تترافق مع ثلاثة على الأقل مما يلي:
- تناول الطعام بسرعة أكبر من الطبيعي.
- عدم الاكتفاء بالشبع والاستمرار إلى حد التخمة المزعجة.
- تناول الطعام بالرغم من عدم الشعور بالجوع.
- تناول الطعام بعيداً عن مرأى الآخرين، بسبب الشعور بالخجل الذي يرافق هذا الاضطراب.
- الشعور بعدم الرضا عن النفس، الاكتئاب والذنب بعد انتهاء الهجمات.
- الشعور بالانزعاج حيال العادات الغذائية.
- حدوث الهجمات بمعدل هجمة أسبوعياً؛ لثلاثة أشهر على الأقل.
- عدم ترافق الهجمات بالتصرفات التعويضية المعروفة في النهم العصابي وعدم حدوث الأعراض فقط في سياق الإصابة بالقهم أو النهم العصابي.
لا نحتاج لتوافر جميع هذه المظاهر السريرية لدى المريض لوضع التشخيص، ولا يمكننا الجزم بإصابة الشخص عند وجود عرض أو أكثر، إلا أن هذه المعايير مفيدة في وضع التشخيص وتمييزه عن التشاخيص التفريقية الأخرى، كالنهم العصابي والقهم غير النمطي.
يتميز هذا الاضطراب بعلامات جسدية مميزة، كالشعور بالتعب وعدم كفاية ساعات النوم حين يضيع المريض ساعات النوم بالتهام الطعام، والشعور بالتخمة، الإمساك أو عدم تحمل بعض أنواع الأطعمة.
العلامات النفسية المميزة لدى مرضى اضطراب الأكل المتواصل
- انشغال الشخص بالتفكير بالأكل، شكل الجسم والوزن.
- الشعور بالخجل وعدم الرضا عن الجسد.
- الشعور بالقلق، الحزن، الضيق والكآبة في الفترة التي تلي الهجمات.
- الحساسية الزائدة لتعليقات الآخرين حول اللياقة البدنية والوزن.
- الاكتئاب، القلق وسهولة الاستفزاز.
مخاطر اضطراب الأكل المتواصل
يترافق هذا الاضطراب بمخاطر جسدية كثيرة، حيث يتداعى الجسم تدريجيّاً وتفشل أجهزته المختلفة بسبب الأمراض المرتبطة بالبدانة، نذكر منها:
- الفصال العظمي (Osteoarthritis) أو التهاب العظام والمفاصل وهو شكل مؤلم ينتج عن تنكس المفاصل وتراجع كفاءتها بسبب غياب الغضاريف المفصلية وتشوه السطح الطبيعي المناسب لحركة المفصل.
- مشاكل كلوية مزمنة قد تفضي إلى قصور كلوي مزمن.
- ارتفاع ضغط الدم وارتفاع كولسترول الدم؛ مما يزيد خطورة الإصابة بتصلب الشرايين (Atherosclerosis)، السكتة الدماغية، داء السكري، أمراض المرارة والأمراض القلبية.
عوامل الخطورة المرافقة لاضطرابات الشهية
تميل اضطرابات الشهية للحدوث في سنوات المراهقة وبداية البلوغ، وتصيب الجنسين إلا أنها تصيب الإناث أكثر من الذكور بمرتين ونصف، وهناك نمط يصيب الذكور بشكل خاص يدعى شذوذ تصور العضلات (Muscle Dysmorphia) وهو اضطراب في الصورة الذهنية الموجودة لدى الرجل حول عضلاته يجعله يشعر بقلق دائم ويدفعه لمحاولة اكتساب العضلات بشكل مستمر.
وفق تقرير نشرته مؤسسة (Beat) الخيرية والتي تتابع شؤون المصابين باضطرابات الشهية المختلفة عام 2015، فإنه يعاني أكثر من 725 ألف شخص في المملكة المتحدة وحدها من اضطراب شهية واحد أو أكثر، بالرغم من أنها تصيب الجنسين وجميع الفئات العمرية، إلا أنها تتركز في فئات أكثر من الأخرى على الشكل التالي:
- تعاني امرأة من كل 250 وواحد من بين 2000 رجل من القهم العصابي، وتتطور هذه الحالة في عمر 16 أو 17.
- بينما يكون النهم أشيع من القهم بحوالي مرتين أو ثلاث، بغالبية إصابة للإناث بحوالي 90% من المصابين وبعمر 18-19.
- أما اضطراب الأكل المستمر، فيتطور في سنين لاحقة من الحياة (حوالي 30-40)، ويتميز بإصابة الرجال والنساء بنسب متقاربة، وهو الأكثر شيوعاً إلا أن الحصول على إحصائيات دقيقة ليس سهلاً نظراً لصعوبة وضع التشخيص.
يمكننا اختصار عوامل الخطورة لمعظم اضطرابات الشهية فيما يلي:
وجود استعداد وراثي يتمثل في اضطراب عمليات التمثيل الحروري (الاستقلاب) والامتصاص المعوي زيادة أو نقصاناً، اضطراب توازن المواد الكيميائية التي يفرزها الدماغ لتعطي شعوراً بالجوع أو الشبع، عدم الرضا عن شكل الجسم، التأثير السلبي من المحيط، اتباع الحميات، نقص الدعم العائلي والاجتماعي.
كما أشار عدد قليل من الدراسات إلى عوامل أخرى تزيد احتمال الإصابة مثل:
نقص الثقة بالنفس، عدم القدرة على التأقلم مع المتغيرات، تناول الطعام وحيدًا، قراءة مجلات الموضة والأزياء، ضغط المجتمع والصورة النمطية لجسم الأنثى المثالي، الجنس المؤنث (أي أنّ احتمال إصابة الإناث أكبر من الذكور)، سوابق البدانة في الطفولة، مشاكل اجتماعية، الانسحاب من المجتمع، الحساسية من تعليقات الأقران وسوابق الاضطرابات النفسية.
كيفية معالجة اضطرابات الشهية
لن ندخل في تفاصيل علاج جميع اضطرابات الشهية الآن فلكل حالة خصوصيتها، لكن علاج الجميع بشكل عام يعتمد على تعديل النظام الغذائي للوصول إلى حالة استقرار، إما بزيادة الوارد الغذائي أو إنقاصه، مع إقناع المريض بخطأ تصرفاته واللجوء إلى إعطاء أدوية الشهية والعلاج النفسي في بعض الحالات.
يجدر الإشارة أن العديد من المريضات بالقهم العصابي يتظاهرن بالتعاون مع خطة العلاج والنظام الغذائي الصحي، ثم يقمن في الخفاء بإجبار أنفسهنّ على القياء وهذا ما يعطي انطباعاً لدى الطبيب بعدم جدوى الحمية عند استمرار وزن المريضة في الانخفاض رغم العلاج، في هذه الحالة تعالج المريضة بالإكراه كي لا تدفع حياتها ثمناً لحرية اختيار نظامها الغذائي وفقاً لأهوائها.
تلك كانت أهم اضطرابات الشهية وأكثرها شيوعاً، ونشير إلى بعض الاضطرابات الأخرى غير المصنفة، والتي لا تتكامل فيها عناصر أي من الاضطرابات السابقة الرئيسية:
- القهم العصابي غير النمطي (Atypical Anorexia Nervosa): وهنا لا ينقص وزن الجسم بالرغم من أن السلوك الغذائي يشير للقهم بوضوح.
- اضطراب التخلص من الطعام (Purging Disorder): هنا ينخرط المريض في محاولات الإقياء بعد كل وجبة وتناول المسهلات دون وجود هجمات فرط الأكل المشاهدة في النهم العصابي.
- متلازمة الأكل الليلي (Night Eating Syndrome) واسمها يدل على محتواها.
- الاجترار (Rumination Disorder): وهو أن يسترجع المريض محتويات الطعام من بطنه ليمضغها قليلاً ثم يبصقها على الأرجح، ويكثر عند الأطفال.
- متلازمة بيكا (Pica): تدعى أيضاً متلازمة أكل القاذورات، وفيها تعتري المريض رغبة جامحة في تناول أشياء لا يمكن أن يشتهيها الإنسان السليم ولا تملك قيمة غذائية على الإطلاق، كأعقاب السجائر، قشور الفواكه، القمامة أو التراب.
مما سبق؛ نجد أن الشهية موضوع معقد وشائك يرتبط بحالتنا النفسية ومكوناتنا الوراثية والهرمونية، وينبغي علينا أن نعي مخاطر اضطرابات الشهية التي قد تكون مميتة، والانتباه إلى أعراضها الأولية عند المحيطين بنا،
كما يجب أن نوضح للآخرين، وخاصة للفتيات في سن الخطر (المراهقة) أنّ المعايير التي تضعها شركات الموضة ليست منطقية ولا صحّيّة بالنسبة لهنّ، وننصحهن بالتعقل وعدم الركض وراء السراب في محاولة الوصول إلى الجسد المثالي المزعوم.