الالتهابات الفطريّة الجلديّة في فروة الرأس
اعتبرت التهابات فروة الرأس الفطريّة (Tinea Capitis) في حقبة زمنيّة معيّنة علامة هامّة للفقر المدقع في أنحاء أوروبّا وأمريكا الشمالية، واقتصرت التدبيرات الصحيّة آنذاك على إقصاء الأطفال المصابين من مدارسهم، إلى أن شهد المجال الطبيّ الدوائيّ ثورة حقيقيّة قُدّم خلالها الغريزيوفولفين (المضاد الفطريّ الفعّال) كوسيلة علاجيّة ناجعة لتدبير حالات الالتهاب الفطريّ المنتشرة.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
تصنّف سعفات الرأس الجلديّة كواحدة من أكثر الإنتانات (الالتهابات) الفطريّة شيوعاً حول العالم لا سيما لدى الفئات العمريّة الصغيرة (الأطفال)، وفي هذا المقال سوف نتحدث عن أسباب التهابات فروة الرأس والتشخيص وطرق العلاج.
العوامل المرضيّة لحدوث سعفات الرأس
تنجم سعفات فروة الرأس عن أنماط فطريّة معيّنة (Dermatophytes) تستهدف الخلايا الجلديّة الميّتة والشعر والأظافر، كما أنها تفضل على وجه التحديد سمات جلديّة خاصة كالرطوبة والدفء، لهذا تصادف الحالات الفطريّة بكثرة لدى ذوي البشرة الدهنيّة كونها تؤمّن الخيارات الأفضل والأنسب لتعايش الفطريات الجلديّة.
تختلف الأصناف الفطريّة المسؤولة عن حدوث سعفات الرأس الجلديّة وفقاً للتوزع الجغرافيّ للمناطق، فنجد مثلاً كيف سيطرت فطور (Microsporun Audouinii) بشكل واضح في شمال أمريكا وأوروبا حتى خمسينات القرن المنصرم، بينما حلّ فطر (Trichophyton Tonsurans) كبديلٍ هامّ عنها في الولايات المتحّدة الأمريكيّة (USA) حالياً، بالإضافة إلى زيادة معدلات انتشاره بشكل متتابع في أوروبا، وقد وصلت نسبة الإصابات التي أحدثتها الفطريات في المملكة المتحدة إلى حد كبير. [1]
كيف تحصل عدوى التهابات فروة الرأس
تنتشر الأمراض الفطريّة الجلديّة (السعفات الالتهابية) بسهولة كبيرة بين الأفراد في المجتمع خصوصاً الأطفال الصغار في المدارس والحضانات المكتظة بأعداد كبيرة، فيمكن للعدوى أن تصل إلى الأفراد الأصحاء عبر التماس المباشر مع جلد الأشخاص المصابين، إضافة إلى استعمال فرشاة الشعر الخاصة بالمصاب أو النوم في فراشه أو استعمال أيّ أداة شخصيّة أخرى قد مسّت المناطق الجلدية المصابة بالإنتان الفطريّ (مناشف مثلاً).
يُذكر أن حيوانات المزارع (بقر، خنزير، ماعز، أحصنة،..) قد تساهم بشكل واضح في نقل العدوى إلى الأفراد الأصحاء أيضاً، لا سيّما إن كان الحيوان حاملاً (Carrier) للعوامل الفطرية الممرضة دون أن تبدو عليه أعراض سريريّة صريحة، ويعتبر التماس المباشر واللعب مع الحيوانات الأليفة المصابة كالقطط والكلاب كفيلاً أيضاً بانتقال العوامل الممرضة إلى الأفراد الأصحّاء.
تنتشر حالات حدوث سعفات الرأس بشكل أساسيّ لدى الأطفال قبل سن البلوغ، أي لدى من تتراوح أعمارهم بين 6 و 10 سنوات، ولوحظ أن الإصابات الفطريّة تطال الذكور أكثر من الإناث، ونادراً ما تستمرّ لدى المراهقين الذين تجاوزت أعمارهم 16 سنة. [1]
عوامل الخطورة التي تهدد بحدوث إصابات الرأس الفطريّة
- مناطق الازدحام (المدارس، دور الحضانة، التجمعات السكانية المكتظة).
- العمر (لدى الأطفال قبل سن البلوغ).
- صالونات تصفيف الشّعر.
- استعمال الأدوات الشخصية الخاصة بالفرد المصاب، كفرشاة الشعر أو المنشفة أو الوسادة.
- العرق، حيث تنتشر الإصابات الفطرية التي تحدثها T.tosnurans بشكل كبير لدى أفراد العرق الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية. [2]
الأشكال السّريريّة لسعفات الرأس
تأخذ سعفة الرأس أشكالاً متنوّعةً تختلف بين فرد وآخر وفقاً لنوع الفطر الممرض والآلية الإمراضيّة المسببة للعارض السريريّ، وعادة ما تتجلى وفق ثلاثة أشكال سريريّة نستعرضها تباعاً:
السّعفة الجازّة (اللا التهابيّة)
تمتاز هذه السّعفة بنموّ الفطريات الممرضة على ساق الشعرة (القسم الخارجيّ أو الظاهر منها)، وذلك على أرضيّة جلديّة محمرّة قليلاً (حُماميّة) مع ما يعلوها من صفائح متراكمة من الكيراتين الجلديّ (وسوف).
تتأثر الأشعار من الإنتان الجلديّ الفطريّ لتتكسّر على البقعة الحماميّة المتوسّفة فتبدو وكأنها مجزوزة، تنتشر السعفات الجازّة بشكل وبائيّ بين الأطفال الذكور ضمن المدارس.
ونادراً ما نشهدها لدى البالغين وكبار السّن، وتعتبر فطور الشعروية الجازّة (Trichophyton Tonsurans) أهم العوامل الفطرية الممرضة التي تتسبب بحدوثها، وتمتاز هذه الآفة بخلوّ الآثار الجلديّة والندبات التي تحدث عقب حدوث الشفاء. [2]
السّعفة الالتهابيّة أو الشّهدة
يحدث هذا النمط (Kerion) من السعفات بشكل أساسيّ حينما ينفذ الفطر عميقاً داخل الجريب الشّعري مما يؤدّي إلى تشكّل بثور وعقيدات تترافق مع مفرزات قيحيّة كثيفة.
وتبدو العلامات الالتهابية بقوّة مع هذا النمط من السعفات، حيث تظهر المنطقة المصابة من فروة الرأس باحمرار واضح مع وذمة بارزة ومرتشحة بالخلايا البيضاء الدفاعيّة، كما تترصّع محيطياً بالنزّ القيحيّ وقد يُفقد الشعر تماماً من البؤرة المرضيّة أو يبدو قليلاً متكسراً.
غالباً ما ينجم هذا النوع من السعفات عن الفطريات القادمة من سطوح جلود الحيوانات وأوبارها كالبويغاء الكلبيّة (Microsporum canis)، كما يمكن أن تترافق مع أعراض عامّة أخرى كالتعب المعمم والصداع ونقص الشهية، إضافة إلى ضخامة واضحة في العقد البلغميّة الناحيّة أو الجانبية (أي تلك العقد البلغمية القريبة من البؤرة المصابة).
قد تكون العقد البلغمية الرقبية أكثرها تضرراً يمكّن التشخيص والعلاج المبكران للحالة من عودة نموّ الشعر مجدّداً، غير أن التأخر في التدبير الطبي يؤدي إلى فقدان الشعر دون تجدده.
السّعفة القرعيّة
أصبح هذا النمط من السعفات (Favus) نادراً في الوقت الحاليّ نظراً لما يمتاز به من ميزات سريريّة واضحة تستدعي معه مراجعة المريض لأخصائي الجلديّة بشكل فوريّ، حيث تبدو السعفة القرعية سريرياً على هيئة بقع صفراء كبريتيّة مقعّرة ولها رائحة خاصّة مميّزة قريبة جداً تشبه رائحة الفئران.
وتحيط بشعيرات مخلخلة ضعيفة، ينجم هذا الشكل من سعفات الرأس عن فطر الشعرويّة الشوئنلاينيّة (Trichophyton Schoenleini)، وعادة ما تتسم هذه السعفة بسير مرضيّ مزمن يعاود على المريض مجدداً، كما أنها تترك بعد شفائها التام ندبة دائمة. [2]
كيفيّة تشخيص الإصابة بسعفات الرأس
يمكن لأخصائي الجلديّة أن يلجأ إلى مصباح وود (Wood"s Lamp) لكشف الإصابات الفطرية التي تصيب فروة الرأس، يقوم مبدأ هذا المصباح على إطلاق ضوء أسود يقع طول موجته ضمن طيف الأشعة فوق البنفسجيّة.
مما يمكّن المرء من رؤية الالتهاب بالعين المجرّدة، يشترط الطبيب على مريضه ألا يغسل فروة رأسه أو يضع على شعره كريمات أو مساحيق مطرّية قبل إجراء اختبار وود، كما يتم إيقاف تشغيل كافة أشكال الإنارة ضمن غرفة الفحص وإسدال الستائر لتأمين العتمة المناسبة لاستعمال مصباح وود.
وعلى مستوى الإنتانات الفطرية الجلديّة قد يفيد المصباح في كشف التألق (Fluorescence) الذي تعكسه بعض المواد بعد امتصاصها للضوء الأسود (الضوء القريب من طيف الأمواج فوق البنفسجية) المنبعث من مصباح، حيث تعكس فطور البويغاء التي تستوطن الجريبات الشعرية في فروة رأس المريض لوناً أبيض مزرق بعد تعريضها لمصباح وود، وقد لا تعكس أنواع فطريّة أخرى أيّ لون متألقّ على الرغم من وجودها ضمن فروة رأس المريض. وعليه نشير إلى الفائدة المحدودة التي يقدمها لنا مصباح وود في الكشف الدقيق عن وجود سعفات الرأس.
يعمد الطبيب في سير تشخيصه الأكيد لسعفات الرأس إلى أخذ عينات من البؤر الجلديّة المصابة، إضافة إلى سحب بعض الشعر المجزوز أو المتكسر بغية فحصه مجهرياً، وقد يُستفاد في حالات خاصّة من إجراء خزعة (Biopsy) تؤخذ عبرها عينة صغيرة لفحصها مخبرياً، حيث تبدي هذه العينة تحت المجهر تبدلات نسيجيّة معيّنة تشير إلى إصابة الفروة بالإنتانات الفطريّة. [1]
علاج فطريات سعفة الرأس
يصف الطبيب المعالج لمريضه مضادات الفطور التي تؤخذ بالطريق العامّ (فموياً) وذلك ضمن الخطة العلاجيّة المحددة للقضاء على الإصابة الفطرية التي يشكو منها، كالغريزيوفولفين (Griseofulvin) أو تيربينافين (Terbinafine) أو إيتراكونازول (Itraconazole) لمدة زمنية تتراوح بين 4 أو 6 أسابيع.
ليس هذا فحسب، بل يضاف إلى العلاج السابق مضادات الفطريات التي تتوفر بشكل شامبو (Ketoconazole Shampoo)، يوصى بتطبيقه موضعياً على البؤر الجلدية المصابة في فروة الرأس، إلى جانب استعمال سلفيدات السيلينيوم والكريمات المضادة للفطور أيضاً (تيربينافين بشكل كريم).
تجدر الإشارة إلى ضرورة تأمين عذر طبي للأطفال يبرر لهم الفترة العلاجيّة التي سيغيبون فيها عن المدرسة، حيث تحتاج بعض الحالات الفطريّة إلى ملازمة الطفل لمنزله ريثما يستردّ سلامة فروة رأسه وخلوّها من الإنتانات الفطريّة، خصوصاً أن الأمراض الفطرية سريعة الانتشار والتفشي بين الأفراد.
أما بالنسبة للأفراد الحاملين للفطريات الممرضة (Carriers) دون أي علامات أو أعراض سريرية مميزة فينصحهم الأطباء عادة باستعمال الشامبو الحاوي على سلفيدات السيلينيوم مرتين في الأسبوع كحدّ أدنى.
بينما إذا ظهرت خيوط الفطريات الممرضة بشكل كثيف على الشعر المتراكم ضمن فرشاة الشعر عليهم أن يستشيروا الطبيب المختصّ الذي سيباشر حينها بوصف المضادات الفطرية الفمويّة بعد تأكده الدقيق من وجود سعفة الرأس عندهم.
من جهة أخرى، ينصح خبراء الصحة العامة بضرورة وأهمية مراجعة الطبيب المختص للبحث عن الأدلة المرضية، التي تثبت حدوث العدوى أو الإصابة الفطرية المباشرة للطفل بعد تماسه أو لعبه مع فرد مصاب بسعفة الرأس.
أما عن شهدة الرأس الفطريّة، فيمكننا تلخيص أهم النقاط الخاصة بعلاجها وفق التالي:
- استعمال مضادات الفطريات الفموية لمدة تزيد عن الفترة المعتادة، كأن تتراوح بين 12 أو 16 أسبوعاً وفقاً لما يحدده الطبيب المشرف على العلاج.
- سبق أن تم استخدام الستيروئيدات القشرية (Steroids) في التخفيف من وطأة تطور المرض إلى الندبات، أما حالياً فقد خفّ استخدامها ولم يعد يوصي بها أطباء الجلديّة.
- إزالة الطبقات المتقشرة من البؤر المصابة بالإنتان، وذلك لحماية فروة الرأس من الحكة الشديدة والمزعجة، إلى جانب الإنتانات الجرثومية الثانوية التي قد تحدث بسبب وفرة القشور المتراكمة فوق البؤر المرضيّة.
- استعمال الصادات الحيوية الموجهة ضد الجراثيم، وذلك إن اختلطت هذه الآفات الفطرية بإنتانات جرثومية ثانويّة (تحديداً العنقوديات المذهّبة S.aureus).
طرق الوقاية من الإصابة بسعفات الرأس
- تشخيص الحالة عند الأفراد الذين لا تظهر لديهم أعراض الإصابة وعلاجهم فوراً.
- تشديد المراقبة الصحية لدى أطفال المدارس لحمايتهم وعلاجهم من كافة أشكال الأمراض الجلدية المعدية والحد منها.
- تعليم الطفل أن يمتنع عن مشاركة أدواته الشخصية مع الآخرين ويحافظ على خصوصيته في استخدامها، تحديداً فرشاة الشعر والمناشف. [3]
نشير إلى أن سعفات الرأس قد تتطور إلى مراحل أسوأ مخلفةً بذلك مضاعفات لا تحمد نتائجها، كفقدان الشعر الدائم وعدم نموّه مجدداً، أو حدوث الحاصة الندبيّة التي تدمّر الجريبات الشعرية في سياقها تاركة بذلك ندبات جلديّة ملحوظة بالعين المجردة.
وعلينا ألا نهمل الأثر النفسيّ الكبير الذي تتركه هذه الآفات الفطرية في نفس الطفل المصاب، لا سيّما إن عومل بقسوة أو هجره أصدقاؤه اعتقاداً منهم بقلة نظافته.
وننصح قراءنا دوماً بضرورة الاستشارة الطبية الفوريّة عند ظهور أي عرض ملفت استعرضناه في مقالنا اليوم بغية التشخيص والتدبير المبكرَين اللذين يحميان الفرد من مخاطر المضاعفات وعقباها.