اضطراب الهويّة الافتراقيّ (Dissociative Identity Disorder)

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 | آخر تحديث: الثلاثاء، 05 مارس 2024
مقالات ذات صلة
اضطراب نهم الطعام
الاضطراب العاطفي الموسمي
اضطراب الشخصية الحدية

ضجت في الآونة الأخيرة صفحات التواصل الاجتماعيّ ودور السينما حول العالم بفيلم هوليوديّ يتناول حالة تعدد الشخصيات لدى الفرد الواحد، ولا نخفي عليك أبداً مدى صعوبة استيعاب ذلك بين الأوساط العامة وحتى الطبية منها.

كذلك الأمر فيما يتعلّق بتشخيصها الدقيق من قبل خبراء علم النفس ووضع الخطة العلاجيّة الأنسب لها، يعتبر اضطراب الهويّة الافتراقي (Dissociative Identity Disorder)، أو كما يعرف قديماً باسم اضطراب الشخصيّة التعددي (Multiple Personality Disorder)، مرضاً نفسياً شديداً ومزمناً يمتاز بظهور شخصيّتين جديدتين أو أكثر تتبدّل فيما بينها لدى الفرد الواحد.

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

وهي تعرف شعبياً بحالات المسّ الشيطاني (تلبس الجن أو Possession)، فما أسبابها؟ وكيف تظهر الأعراض لدى الفرد المصاب؟ وما الطرق العلاجية الحديثة التي يستخدمها أطباء النفس والخبراء لتدبيرها؟

الافتراق (Dissociation) كوسيلة تدافع بها النفس البشريّة عن شدّة نزلت بها

تحتاج النفس البشريّة بشكل طبيعيّ إلى القيام بآلية دفاعيّة تحميها من تبعات أوقات الشدة والتوترات والضغوط التي تطرأ عليها، وتعتبر هذه الحيل الدفاعيّة طبيعية طالما تستعملها النفس البشريّة باعتدال.

غير أن الإفراط في استخدامها يقود إلى تحريف الواقع وتزييفه بشكل مبالغ فيه، جاعلاً منها حالة مرضيّة تتطلب الكشف السريع والعلاج المناسب.

ذُكر في طب النفس ما يتجاوز الثلاثين آلية دفاعيّة وجاء الافتراق (Dissociation) بينها، يحدث فيه أن ينفصل المرء (Split) عن الواقع المحيط به، ويفقد بوصلته في تحديد الزمان والمكان الحاليين، ويعاني من مشاكل جسيمة في الذاكرة والقدرة على التفكير.

كما قد يصل الأمر إلى الفشل الملحوظ في تحديد ذاته ومعرفة نفسه والوعي بها وكحيلة من نفسه البشريّة لتجاوز هذه العقبة؛ تستعيض عن جهله التامّ لنفسه ومحيطه بشخصيّة جديدة تخوّله متابعة حياته الآنيّة.

يُلاحَظ استعمال هذه الوسيلة الدفاعية بشكل حاد ومبالغ فيه بعد وقوع الشدائد والمصائب الكبيرة التي قد يصعب على المرء تجاوزها بشكل كبير، لا سيما حالات الإهمال العاطفي (Emotional Neglect) والاضطهاد الجسدي أو الجنسي خلال مرحلة الطفولة (Child Abuse).

إضافة إلى الرضوض النفسيّة القويّة التي تعقب فترات الحروب، وهذا ما يجعل مرض اضطراب الهوية الافتراقي على صلة كبيرة باضطراب الشدّة بعد الكرب (Post Traumatic Stress Syndrome)، فهناك اعتقاد بنسبة كبيرة تصل إلى 80% تفيد بإمكانية وجود اضطراب الشدة بعد الكرب كمرض نفسي يعقب اضطراب الهويّة الافتراقيّ.

سمات الشخصية المصابة باضطراب الهوية الافتراقيّ

يصحّ القول أن اضطراب الهويّة الافتراقي عبارة عن تجزئة الهوية الواحدة، بدلاً من تضاعفها أو زيادتها، ليس هذا فحسب، بل يعكس لنا هذا الاضطراب العجز الملحوظ في دمج الذكريات والأفكار والخواطر والجوانب أو الصفات المتعددة للشخصية ضمن ذات واحدة يستطيع المرء إدراكها بشكل جيّد.

يمتاز اضطراب الهويّة الافتراقيّ بوجود شخصيتين مختلفتين على الأقل تتبدّلان فيما بينها، يُذكر أن لكل شخصية اسمها وعمرها وعرقها وجنسها وحالتها الاجتماعيّة والصحيّة الخاصة بها.

وتختلف هذه الشخصيات عن بعضها بطريقة الحديث والمفردات التي تستعملها، إضافة إلى تحصيلها الدراسي المتفرّد ومزاجها المسيطر، تجدر الإشارة إلى أن الشخصيات عادة ما تجهل وجود بعضها بعضاً مهما كان عددها، ولا يصادف أن تتصادم أو تتنازع فيما بينها.

أسباب حدوث اضطراب الهوية الافتراقيّ (DID)

يُذكر أن اضطراب الهوية الافتراقيّ يحدث ضمن الفترة الحرجة التي تحتاجها النفس البشريّة كي تتكوّن وتتبلور، أي خلال فترة الطفولة لاسيّما قبل سن السبع سنوات، ولا يزال الجدل كبيراً جداً حول السبب الرئيسي الذي يتحمّل مسؤولية حدوث هذا الاضطراب النفسيّ.

غير أن مجموعة من الافتراضات قد وضعت في سياق تفسير حدوث هذا الاضطراب، نذكر منها ما يأتي:

  • الإهمال العاطفي الشديد (Emotional Neglect) أو التعنيف الجسدي والاضطهاد الجنسيّ الذي شهده المريض خلال مرحلة الطفولة.
  • الرضوض النفسيّة التي تحدث عقب خسارة أحد أفراد العائلة، أو الحرب، أو الحوادث والكوارث الطبيعيّة.
  • الاضطهاد المرتبط بثقافة المرء وبيئته، لا سيما الدينيّة منها (تلبّس الجن).

يشير البعض إلى دور المعالجات المستخدمة في سياق الطب النفسي في إحداث هذا المرض، حيث يحاول الطبيب أن يقحم أعراض وسمات هذا الاضطراب لدى مريضه المنوّم مغناطيسياً، غير أن هذا الادعاء لا يزال محطّ جدل كبير ولم يحسم القرار حياله.

الأعراض السريريّة الخاصة باضطراب الهوية الافتراقيّ

وضعت الأعراض الخاصة بهذا الاضطراب النفسيّ بشكل واضح ضمن التصنيف الأمريكي الخامس للأمراض النفسية (DSM-V)، نستعرضها وفق الآتي:

  1. وجود شخصيّتين مختلفتين على الأقل في سياق هذا الاضطراب النفسي، يحدث الانتقال فيما بينها بشكل فجائي وتحت تأثير التوتر النفسي غالباً.
  2. النسيان الافتراقي (Dissociative Amnesia): يحدث هذا النسيان  بشكل فجائيّ وتالٍ لرضّ نفسيّ أو حادث ضخم أثّر سلباً على نفسية المرضى، وبشكل أكبر لدى الذكور الشبان منهم، يتمثل بوجود حلقات ضائعة وفراغات في ذاكرة الفرد التي تخزّن معلومات حول أحداثه اليوميّة والأزمنة والأمكنة التي شهدها خلال حياته. تتباين الحالة الانفعالية لدى مرضى النسيان الافتراقيّ لنجد درجة من الارتباك أو الإحساس بالضيق وربما محاولات شتى لجذب انتباه من حولهم، وقد نلتمس لديهم درجة غريبة من تقبّل الأعراض مما يثير التساؤل والاستغراب.
  3. العجز الشديد وعدم القدرة على أداء المهام الحياتيّة اليوميّة أو النهوض للعمل.
  4. الهلوسات السمعيّة والبصريّة.
  5. لا يعتبر هذا الاضطراب عرفاً سائداً في الثقافة والمجتمع، فمن غير المقبول أبداً أن نعتبر تصرفات الأطفال المرافقة لهذا الاضطراب طبيعيّة وممكنة إذا ما قارنّاها بقابليّة وجود صديق تخيلي لدى الطفل واعتبارها حالة طبيعيّة غير مرضيّة.
  6. الانسحاب من المشاركة في النشاطات الاجتماعية المختلفة.
  7. عدم القدرة على استرجاع كميات كبيرة من ذكريات الطفولة.
  8. تبدلات مفاجئة وملحوظة في مزاج المريض وسلوكياته وحتى مظهره الخارجيّ.
  9. مشاهدة الذكريات السيئة التي تتعلق بالحوادث المسؤولة عن ظهور هذا الاضطراب النفسيّ (Flashbacks).
  10. أعراض عصبيّة غير مفسّرة، كالاختلاجات وفقدان الحسّ.
  11. ظهور بعض الشكاوى الجسديّة، كالصداع الشديد، والآلام البطنيّة والمهبليّة أو الشرجيّة، ومن الممكن للمريض أن يشعر أحياناً بالاختناق، مع تشوشّ الرؤية.
  12. وجود بعض الحالات والأمراض النفسيّة المرافقة للاضطراب، كمرض الاكتئاب وتبدلات المزاج اضطراب الشدة بعد الكرب (PTSD)، الإدمان على المخدرات والكحول، يضاف لها أيضاً القلق واضطرابات النوم (قلة عدد ساعات النوم أو زيادتها)، اضطرابات الشهية، مع محاولات المريض أن يؤذي نفسه عمداً، كما سجّلت نسبة تعادل 70% من محاولات الانتحار لدى مرضى هذا الاضطراب النفسيّ.

أعراض المرض لدى الأطفال المصابين

  • الشعور بالخوف وعدم الانتماء للأفراد المحيطين به.
  • التعامل مع الطفل على أنه مختلف عن ذويه من نفس الأعمار من ناحية التصرفات والسلوك، دون تحديد سبب واضح خلف هذا التصنيف.
  • شعور الطفل بالخوف والعار.
  • سلوك جنسيّ غير مقبول.
  • صعوبات يواجهها الطفل على مستوى التعلّم والدراسة.
  • مشاكل على مستوى الثقة، حيث يصعب عليه أن يثق بالآخرين.
  • محاولات الطفل للهروب من المنزل.
  • انحراف الطفل وجناحه عن الصّواب.

تشخيص مرض انفصام الهوية الافتراقي

معايير تشخيص اضطراب الهويّة الافتراقيّ، وفقاً للتصنيف الأمريكي الخامس للأمراض العقليّة (DSM-V):

  • وجود شخصيتين مختلفتين على الأقل.
  • حدوث النسيان الافتراقيّ بشكل أكيد.
  • مشاكل وصعوبات على مستوى إنجاز المهام وأداء المهمات التابعة للعمل.
  • ألَّا ينتمي أي من أعراض الإصابة باضطراب الهوية الافتراقي إلى الممارسات الطبيعية لبعض الديانات أو العادات الطبيعية لمجتمع ما. (فإذا شاهدت طفلك مثلاً يتحدث إلى دميته المفضلة فذلك لا يعتبر تصرفاً خارجاً عن المألوف، أو إذا خاطب المصلّي ما يعبده داعياً بصوت عالٍ فذلك لا يعتبر اضطراباً افتراقي نظراً لكونه سلوكاً طبيعياً ينتمي لطقوس العبادات الدينيّة).
  • أن تستبعد إمكانيّة تعاطي المرء للمواد الكحوليّة أو أدوية معينة قبيل تثبيت التشخيص، لا سيما أن لهذه المواد تأثيرات عضوية مماثلة لما قد يحدث في سياق اضطراب الهوية الافتراقيّ.

علاج اضطراب الهوية الافتراقيّ

لسوء الحظّ، لا يتوفر علاج شافٍ تماماً من اضطراب الهوية الافتراقي، غير أن التشخيص الدقيق لمريض هذا الاضطراب مع حثّه على متابعة جلسات العلاج النفسي بشكل مواظب يساعد كثيراً في ضبط الحالة، وينبغي الإشارة أيضاً إلى أنه لا تتوفر أقراص دوائية تساهم في علاج هذا الاضطراب النفسيّ.

وعليه تتركز جهود الأطباء الحثيثة على إجراء جلسات العلاج بالكلام (Talk Therapy) أو جلسات التنويم المغناطيسي (Hypnotherapy) للسيطرة على الأعراض بشكل رئيسيّ، بينما يصف الطبيب أدوية أخرى لمعالجة المرض النفسي المرافق للاضطراب في حال وجوده، كالأدوية المضادة للقلق، أو مضادات الاكتئاب ثلاثيّة الحلقة (تسمية مضادات الاكتئاب التي تتألف من ثلاث حلقات كربونية).

يقوم العلاج النفسيّ على تخليص المريض من جميع الشخصيات التي يتنقل فيما بينها وفقاً للشدائد النفسية والتوتر الذي يعتريه، إضافة إلى محاولة الطبيب كي يدمجها مع مريضه في شخصية واحدة تنتمي لذات واحدة مدركة لنفسها ومحيطها.

معلومات إضافيّة عن اضطراب الهوية الافتراقيّ (DID)

  • يحدث هذا الاضطراب بشكل أكثر شيوعاً في مرحلة اليفع والشباب.
  • هنالك أرجحية لظهور الاضطراب لدى النساء أكثر من الرجال.
  • تشير الإحصائيات إلى أن تعداد الحالات المشخّصة لدى الأطفال يكاد يكون نادراً ما يشخّص المرض لدى الأطفال.
  • بلغ تعداد الشخصيات لدى نصف مرضى هذا الاضطراب في مرحلة من المراحل إلى أقل من 100 شخصيّة، بينما يبلغ التعداد الحاليّ لشخصيات هذا الاضطراب نحو 16 كحد أقصى.
  • تتصف الشخصيّة الأولى التي تحمل اسم المرء الحقيقي عادة؛ بكونها مستقلّة ومكتئبة وكثيرة الشعور بالذنب، بينما تتنوع صفات الشخصيات الأخرى لنجد النشيط والمرح منها، أو على العكس نجد بعضها عدوانياً وعنيفاً ومثيراً للشغب.
  • يصيب هذا المرض نسبة تتراوح بين 1 و3% من مجموع السكان حول العالم.
  • عرف هذا الاضطراب النفسيّ قديماً باسم اضطراب الشخصية التعدديّ (Multiple Personality Disorder)، وقد بقي متداولاً حتى عام 1994، حيث سمّي بعدها باضطراب الهويّة الافتراقيّ (Dissociated Identity Disorder) السائد حتى وقتنا الحاليّ.
  • يمكن للانتقال بين شخصيّة وأخرى أن يستغرق ثوانٍ أو دقائق وربما عدة أيام، وتجدر الإشارة إلى الاستجابة الجيّدة  للشخصيات مهما كان تعدادها لكلام المعالج النفسيّ وطلباته خلال جلسات العلاج بالتنويم المغناطيسيّ.

وفي النهاية، تعرفنا معاً على مفهوم اضطراب الهويّة الافتراقيّ (DID)، وشرحنا الأسباب المسؤولة عن ظهوره، كما فصّلنا في مجموعة الأعراض والعلامات التي نشاهدها في سياقه، مستعرضين الطرق العلاجية التي يتبعها خبراء علم النفس حالياً في علاجه، مشيرين بدورنا إلى أن متابعة المريض لجلسات العلاج النفسي المتتابعة ستحدّ كثيراً من خطورة تطوّر الأعراض نحو الأسوأ.